د. إبراهيم زيد الكيلاني
الدارس لكتاب الله العزيز، وسنة النبي الكريم ، وسيرة السلف الصالح رضوان الله عليهم - يعلم أن الشورى فريضة ملزمة، وأن من خُلق الحاكم المسلم وواجباته الأولى أن يرجع إلى أهل الرأي والخبرة في قضايا الأمة ومصالحها، وكان أهلُ الحل والعقد -من العلماء وأصحاب الخبرة في الأمور السياسية والعسكرية والاقتصادية والتشريعية- مرجعَ هؤلاء الحكام، يصدرون عن رأيهم واستشارتهم.
ومع تغير الزمن، وتطور المجتمعات، واختراع وسائل الإعلام الحديثة، وتقارب المسافات بوسائل السفر والطرق، واختراع الآلة والمصنع، وانتشار المدارس والجامعات، واستفادة الأمم من تجارب الأمم الأ..... - كانت المجالس النيابية وقيام الأمة باختيار ممثليها وحكامها لتحقيق الأهداف التالية:
1- تحرير إرادة الشعب من الحكام الظالمين؛ فالشعب هو الذي يختار حكامه، ويختار ممثليه الشرعيين، وممثلو الشعب الذين اختارهم بالانتخاب المباشر هم الذين يختارون الحكومة، ويحاسبونها.
2- تحصين الشعب بالقضاء العادل المستقل الذي يعلن أنه لا أحد فوق القانون، واستقلال القضاء أساس في العدل.
3- تحصين الشعب بالإعلام الصادق الحر الذي يقف بالمرصاد لكشف أية خيانة سياسية أو مالية، وفضح أي تقصير، وتسليط الضوء على أداء رأس الحكم ووزرائه وكبار المسئولين وصغارهم، لتكون السلطة التشريعية بالممثلين للأمة في مجالسها التشريعية، والسلطة التنفيذية بالحكام المنتخبين من ممثلي الشعب، والسلطة القضائية المستقلة عن نفوذ الحكام وضغوطهم، والصحافة الحرة والإعلام الصادق.. لتكون هذه السلطات الأربع أساسًا في تقدم الأمة وحفظ حقوقها، وتحصينها من الحاكم الظالم وأصحاب النفوس المريضة والقرارات المتسرعة.
الشورى في القرآن الكريم والسنة النبوية
في القرآن الكريم سورة "الشورى". وقد بيَّن الله فريضة الشورى ومكانتها حين ذكرها في سياق صفات ملزمة للمؤمنين بقوله: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 37، 38]. فذكر الله الشورى بين فريضتي الصلاة والزكاة، وهما من أعظم أركان الإسلام.
والشورى خُلُق رسول الله .. قال تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159].
وقد بيَّن الصحابة الكرام استشارة النبي الكريم لأصحابه في السلم والحرب في غزوات بدر وأُحُد والخندق وغيرها، وما كان أحد أكثر استشارة لأصحابه من رسول الله .
والشورى خلق المؤمنين في حياتهم الخاصة والعامة؛ يرشدنا القرآن الكريم إلى هذا الخلق في فطام الرضيع: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} [البقرة: 233]. (فصالاً: أي فطامًا).
وفي الأثر: "ما ندم من استشار، ولا شقي من استخار"، و"المستشار مؤتمن".
بين الشورى والديمقراطية والحاكمية لله
بين الشورى في الإسلام وبين الديمقراطية الغربية نقاط توافق ونقاط اختلاف.
أما نقاط اللقاء والاتفاق فهي تحرير الشعب من طغيان الحاكم المستبد، والرجوع إلى الشعب في اختيار حكامه وممثليه الشرعيين، وتجريد الحاكم من السلطة أو القوة أو السلاح الذي يَفرض من خلاله سلطته على الناس، لتكون السلطة كلها للشعب، والرقابة والمحاسبة على المال العام للشعب وممثليه، ولتكون مصلحة الأمة محصنة، وليكون الجيش وقوة الأمن العام محكومة بالدستور والقانون ومصلحة الأمة الكبرى.
وأما نقطة الخلاف بين الشورى وبين الديمقراطية الغربية، فهي أن الديمقراطية تقوم على إطلاق صلاحيات الشعب إلى (الحاكمية) بمفهومها المطلق؛ فالشعب يصدر من القوانين والتشريعات ما تحكمه أهواؤه ولو خالفت هذه القوانين أحكام الله، وشرائع الأنبياء، وأباحت الزنا والشذوذ وغير ذلك من المحرمات.
أما الإسلام فيقرر أن الحكم لله، والله وحده هو المشرِّع، وهو وحده المعبود.. قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [يوسف: 40]؛ فمبدأ أن الحكم للشعب يصطدم مع عقيدة المسلم وهي: "إن الحكم لله"؛ لأن حكم الشعب معناه منح الحكم للمخلوق، والاعتداء على حق الخالق الذي له وحده الحكم على من خلق.. قال تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].
الشريعة الإسلامية
لقد فرَّقت الشريعة الإسلامية بين مبدأين: مبدأ السلطة للشعب، ومبدأ الحاكمية لله. وحصَّنت الشعب بذلك من الضلال والانحراف بإلزامه بهداية الله ونهج الأنبياء وعدالة القرآن الكريم؛ لأن شريعة الله لم تحاب طبقة على طبقة، ولا رجال المال على حساب العمال، ولا الرجل على حساب المرأة؛ لأنها شريعة الله العادل التي لم تضعها فئة متنفذة لتخدم مصالحها على حساب الطبقات الأ...... بينما نجد في الغرب أن أصحاب المال والشركات وصناعة الإعلام هم أصحاب القرار، "وأن الطبقة التي تملك هي التي تحكم، وتحكم لمصلحتها ضد بقية الطبقات".
وأكبر شاهد على هذا ما نشاهده من جرائم الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا في تدمير العراق وقتل شعبه وإهلاك حرثه ونسله في ظل الديمقراطية الأمريكية والغربية التي يسيطر فيها اليهود على الرأي العام وتضليله. وكذلك ديمقراطية هتلر في ألمانيا، وديمقراطية اليهود في فلسطين.
أما مبدأ السلطة للشعب، فهذا الذي يخشاه الحكام في بلاد المسلمين، ويعملون لمصادرة حق الشعب في اختيار حكامه ومحاسبتهم، ويتهمون من يسعون لتحرير الشعوب من الحكام الظالمين بأنهم يريدون فرض الديمقراطية الغربية على بلاد المسلمين. أما من باع نفسه وثروات بلده وأرض الوطن للأجنبي، فهذا لا يجاري الغرب ولا يتشبه بهم!! ويعدُّ نفسه كذبًا وخداعًا أنه يقيم حكم الشورى، والإسلام بريء من ظلمه واعتدائه على المال العام.
مبدأ السلطة للشعب وأصوله الشرعية
الدارس للقرآن الكريم يجد مدرسته التربوية العظيمة القائمة على حرب الطغيان والاستكبار، وقد ذكر القرآن الكريم طغيان فرعون وسبب طغيانه، وأن الشعب الذي رضي بالظلم واستكان للطاغية جدير بأن يذوق أشد العذاب.. قال تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127].
وقد صوَّر القرآن الكريم طغيان الحاكم المستبد بفرعون ليجنّد الأمة ويوجهها كيف تقاوم الفراعنة والحكام المستبدين، وكيف تدافع عن شرفها وكرامتها؛ لأن فرعون كان أشد الطغاة طغيانًا وأكبرهم غرورًا وأكثرهم استهانة بقومه. وسجل القرآن كلمته لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24].
ووراء طغيان الطاغية شعب جبان يزيِّن للحاكم طغيانه خوفًا وطمعًا. وهذا ما نبَّه القرآن الكريم إليه بقوله: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54]. فوصف الله تعالى قوم فرعون بهوان الشخصية، وتفاهة العقل والخروج عن كل مكرمة؛ لأن الأمة التي تترك الظالم وبطانته وأعوانه يعيثون في الأرض فسادًا لا تستحق الحياة، ولا يكون مصيرها إلا إلى الهلاك والزوال.
وما أجمل قول الشاعر في تصوير هوان الأمة وكيف يشجعون الطاغية على ظلمه:
الناس ما الناس عُبدان القـوي بهم *** ما بالمطيـة من مهمـاز معـوار
يُزجون من سامهم خسفًا وأرهقهم *** عسفًا تحيـات إجـلال وإكبـار
ويَضفـرون بأيـديهـم لقاطعهـا *** حرصًا على البغي إكليلين من غار
وما أجمل قوله في وصف قمع الحاكم وتزويره لإرادة الشعب بالانتخابات المزيفة:
تلا باطـلاً وجـلا صـارمًا *** وقـال: رضيتـم فقلنا: نعـم
وقوله:
ها هم كما تهوى فحرِّكهم دُمى *** لا يستحون بغير ما ترضى فما
مبدأ السلطة للشعب في الإسلام وأصوله الشرعية
تتفرع عن مبدأ السلطة للشعب المبادئ التالية:
المبدأ الأول: حق الشعب في اختيار الحاكم. وهذا ما نسميه: "البيعة"؛ فالشعب هو الذي يبايع من يريد ويختار من يريد.
المبدأ الثاني: حق الشعب في أن يشاوره الحاكم ولا ينفرد بالقرار؛ بدليل قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159]، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38].
المبدأ الثالث: حق الشعب في مراقبة الحاكم. وهذا المبدأ يقرره قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]؛ فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة شرعية، وركن عظيم في الدين وأصل في بقاء الأمة.. قال تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 116، 117].
وبيَّن النبي أن "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"، وقال : "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده (فهي سلطة الرقابة في تغيير المنكر)، فإن لم يستطع فبلسانه (فهي سلطة الإعلام والمنبر ورجال الفكر في تغيير المنكر وبيان أخطاره)، فإن لم يستطع فبقلبه (أي فليغير بقلبه، وهنا نجد دور الأمة في التغيير عن طريق مقاطعة المنكرات، وتأييد العلماء والوعاظ الذين أنكروا هذه المنكرات)"، وأن مؤسسة الحسبة في الإسلام نشأت عن هذه الفريضة في مراقبة الحكام ومحاربة الانحراف.
المبدأ الرابع: حق الشعب في مقاضاة الحاكم إذا أساء؛ بدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]. ومن معاني الآية: أن الأمة وأولي الأمر إذا تنازعوا في أمر ردُّوه إلى القضاء العادل الذي يحكم به القضاة العلماء بأمر الله ورسوله، فليس هناك حاكم فوق الشريعة في دين الله. وكم كان العامة من المسلمين يقاضون الحكام، ويجلس الحاكم بين يدي القاضي!
المبدأ الخامس: حق الأمة في عزل الحاكم المسيء. وفي هذا يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58].. "ولكن عزل الحاكم قد يؤدي إلى فتن ومفاسد؛ ولذلك اجتهد العلماء أن يبايعوا الحاكم لفترة محدودة معينة ثم بعدها تنتهي مدة حكمه، ويجدد له بانتخابات جديدة..."[1].
وأختم كلمتي بأن التوجيه القرآني الذي حذر الأمة من حالة الاستضعاف والركون إلى الظالمين، ودعاها لمقاومة الفراعنة والمستبدين هو الذي يحكم مبدأ الشورى لتنتفض الأمة وتحطم القيود التي تغيِّب إرادتها باختيار الحاكم الصالح، أو تغيِّب مصلحتها في محاسبة هذا الحاكم إذا أخطأ، وإلاَّ فإن عذاب الله ينتظرها في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّار} [البقرة: 165-167]. وقال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ} [هود: 112، 113].