الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد :
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله :
" وأمّا عُشّاق العلم فأعظم شغفاً به وعِشقاً له من كلِّ عاشقٍ بمعشوقه ، وكثيرٌ منهم لا يشغله عنه أجمل صورة من البشر " [ روضة المحبين 69 ]
لمـحبرة تجـالسـني نهــاري *** أحـب إلىّ من أُنْس الـصديق
ورزمـة كـاغـد في البيت عندي *** أحـب إلىّ من عِـدل الـدقيق
ولطمة عـالم في الخـد مني *** ألذ لديّ من شـرب الـرحـيق
حين يقرأ العلماء .
تأملت حال طلبة العلم اليوم في العزوف عن القراءة وهم في بداية الطلب !
فعجبت كل العجب ! أقد اكتفوا بما حصلوه من العلم ؟
سبحان الله .
يقول ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر : " أفضل الأشياء التزيّد من العلم ، فإنه من اقتصر على ما يعلمه فظنّه كافياً استبد برأيه ، وصار تعظيمه لنفسه مانعاً من الاستفادة . والمذاكرة تبين له خطأه ." أهـ [ 158 ]
أم وقع عليهم مرض " القراءة لمن هم في بداية الطلب " وأما نحن فقد انتهينا من هذه المرحلة ونحن بصدد العلماء الكبار ؟!
فلا أدري أنسوا أم تناسوا حال علمائهم الربانيون .
أغفلوا عن قوله تعالى : [ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ] ( طه / 114 )
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم " [ الفتح / 1 / 170 ]
ويقول ابن قيم الجوزية رحمه الله في ذلك :
" وكفى بهذا شرفاً للعلم ، أنْ أمر نبيّه أن يسأله المزيد منه " [ مفتاح دار السعادة 1 / 223 ]
وما أروع قول من قال :
فلو قد ذقت من حلواه طعما * * * لآثرت التعلم واجتهدتا
ولم يشغلك عنه هوى مطاعٌ * * * ولا دنيا بزخرفها فُتنتا
ولا ألهاك عنه أنيق روضٍ * * * ولا دنيا بزينتها كلفتا
فقوت الروح أرواح المعاني * * * وليس بأن طعمت ولا شربتا
فواظبه وخذ بالجد فيه * * * فإن أعطاكه الله انتفعتا
فيا أيها العقلاء :
أرى الهمم قد ضعفت ، والعزائم قد هرمت ، والجد والجلد قد أخفق مناره ، ومحي دثاره .
فهبّوا إلى القراءة والتزود من العلم .
وما أحسن قول من قال :
رأيت العلم صاحبه شريف وإن ولدته أباء لآم
وليس يزال يرفعه إلى أنْ يُعظِّم قدره القوم الكرام
ويتبعونه في كل أمرٍ كراع الضأن تتبعه السئام
ويُحمل قوله في كل أفقٍ ومن يكُ عالماً فهو الإمام
فلو لا العلم ما صعدت نفوس ولا عُرف الحلال ولا الحرام
فبالعلم النجاة من المخازي وبالجهل المذلة والرغام
هو الهادي الدليل إلى المعالي ومصباح يضيء به الظلام
كذلك عن الرسول أتى عليه من الله التحية والسلام
وفي هذه العجالة أقف مع بعض العلماء الربانيون الذين أمضوا حياتهم رحمهم الله في القراءة وطلب العلم وحتى آخر يومٍ من حياتهم .
علّ هذه الكلمات أن ترفع همماً نوّاره ، للبحث كرّراه ، وفي ميادين العلم زوّاره .
أولاً : الهمة في الحرص على اقتناء الكتب المفيدة .
قال الجاحظ : " من لم تكن نفقته التي تخرج في الكتب ألذّ عنده من إنفاق عُشّاق القِيان ، والمستهترين بالبنيان ، لم يبلغ في العلم مبلغاً رضياً .وليس ينتفع بإنفاقه حتى يؤثر اتخاذ الكتب إيثار الأعرابي فرسَه باللبن على عياله وحتى يُؤمِّل في العلم ما يؤمل الأعرابي في فرسه " [ الحيوان 1 / 55 ]
وقال سلمان الحموي الحنبلي _ من شيوخ الحافظ ابن حجر _ :
وقائلةٍ أنفقتَ في الكتب ما حوت يمينك من مالٍ فقلت : دعيني
لعلِّي أرى فيها كتاباً يدلني لأخـذ كتابي آمناً بيميني
قال مقيده _ عفا الله عنه _ ولقد مرت عليّ أيامٌ كنت أهرب فيها الكتب إلى مكتبتي العامرة في المنزل مع الخضار خشية غضب الوالدين أطال الله في عمرهما .
ثانياً : شبق العلماء إلى القراءة .
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله يحكي عن حال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في القراءة : " وحدثني شيخنا قال : ابتدأني مرضٌ ، فقال لي الطبيب :
إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض ، فقلت له : لا أصبر على ذلك ، وأنا أحاكمك إلى علمك .
أليست النفس إذا فرحت وسُرّت وقويت الطبيعة فدفعت المرض ؟ فقال : بلى .
فقلت له : فإن نفسي تُسرُّ بالعلم فتقوى به الطبيعة فأجد راحةً .
فقال : هذا خارجٌ عن علاجنا ." [ روضة المحبين 70 ]
وقال تلميذه الحافظ ابن عبد الهادي رحمه الله في العقود الدرية صـ ( 5 ) :
" لا تكاد نفسُه تشبع من العلم ، ولا تروي من المطالعة ، ولا تمل من الاشتغال ، ولا تكلُّ من البحث ، وقلّ أن يدخل في علمٍ من العلوم في بابٍ من أبوابه إلا ويُفتح له من ذلك الباب أبواب ، ويستدرك أشياء في ذلك العلم على حذاق أهله ."
ثالثاً : النفس الطويل في القراءة والبحث في بداية الطلب .
حكى ابن الجوزي رحمه الله عن نفسه في صيد الخاطر عن نفَسه الطويل في القراءة فقال : " وإني أخبر عن حالي : ما أشبع من مطالعة الكتب ، وإذا رأيت كتاباً لم أقرأه ، فكأني وقعت على كنز .
ولقد نظرت في ثبَت الكتب الموقوفة في المدرسة النظامية ، فإذا به يحتوي على نحو ستة آلاف مجلد ، وفي ثبَت كتب أبي حنيفة ، وكتب الحُميدي ، وكتب شيخنا عبد الوهاب بن ناصر ، وكتب أبي محمد الخشاب ، وكانت أحمالاً وغير ذلك من كل كتاب أقدر عليه .
ولو قلت : إني طالعت عشرين ألف مجلد كأن أكثر ، وأنا بعدً في الطلب ." [557 ]
وذكر السخاوي رحمه الله في ترجمة شيخه الحافظ ابن حجر :
" وقد سمعته يقول غير مرة : إنني لأتعجب ممن يجلس خالياً عن الاشتغال "
[ الجواهر والدرر 1 / 170 ]
قال مقيده _ عفا الله عنه _ ومن صدق ما قال رحمه الله ، أذكر مرة أنني اشتريت كتاباً من الرياض وسرت نحو الشرقية فما استطعت المواصلة شوقاً إليه، فما كان مني إلا أن توقفت في الطريق وقرأت الكتاب بأكمله ومن ثم أكملت مسيري . فهي والله كنوز ولكن لا نعتبر . ولاحول ولاقوة إلا بالله .
رابعاً : الاستغناء عن الناس والتفرغ للقراءة .
ذكر الذهبي رحمه الله في السير في ترجمة الأعجوبة الإمام أبي عبد الرحمن عبد الله بن المبارك رحمه الله فقال :
" كان ابن المبارك يُكثر الجلوس في بيته ، فقيل له ألا تستوحش ؟
فقال : كيف أستوحشُ وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه " [ السير 8 / 382 ]
وذكر المقريزي رحمه الله في درره [ 1 / 50 ] :
" وقد أعرضَتْ نفسي عن اللهو جملةً وملّت لقاء الناس حتى وإنْ جلّوا
وصـار بحمـد الله شـغلي وشاغـلي فوائد علمٍ لستُ من شُغلها أخلوا
فطوراً يراعي كاتبٌ لفـوائـــــدٍ بصحّتها قد جاءنا العقل والنقل
وآونــة للـعـلم صـــدري جامــعٌ فتزكو به نفسي وعن همّها تسلو "
خامساً : تكرار القراءة أفضل من تنوعها
ذكر الأديب العقاد مقولة رائعة وهي :
" قراءة كتاب ثلاث مرات ، خيرٌ من قراءة ثلاثة كتب "
ومن هذا الباب كان فقه السلف رحمهم الله والعلماء المشتغلون بالعلم في أهمية التكرار لما يقرأ ، ولذلك عندما سأل الإمام البخاري رحمه الله في الحفظ بأي شيءٍ يكون ، قال : بإدامة النظر " وقصد رحمه الله بالتكرار
وعليه . فهذا حال العلماء في القراءة وتكرارهم
فاعرف فضلهم وعلو كعبهم في القراءة وحبهم للعلم ، فهكذا صنيع الأوائل .
• ذكر السبكي رحمه الله في طبقاته ( 2 / 99 ) عن الربيع المزني _ تلميذ الشافعي رحمه الله _ قال : أنا أنظر في كتاب الرسالة منذ خمسين سنة ، ما أعلم أني نظرت فيه مرة إلا وأنا استفيد شيئاً لم أكن عرفته "
قال مقيده _ عفا الله عنه _ :
سبحان الله ، لا كلل ، ولا سآمة ، بل المزيد من الطلب والعزيمة الصادقة ، والهمة العالية ، والتحصيل المستمر .
لله درهم ، أبدعوا وأجادوا ، فنالوا وأفادوا .
فعجباً والله لغربة أهل هذا الزمان في طلب العلم .